عرفه الطالب أخيار بن مامينا بقوله:
“هو الشيخ الإمام القطب الرباني، والعارف الصمداني، بركة الأمة، القدوة المتفق على زهده، وورعه، وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله، وكان صاحب كشف وكرامات خارقة ومجاهدات باهرة، وأحد الأولياء المشهورين، مع الديانة والصلاح والتقوى.
تقدم ذكر والده، كما تقدم ذكر أخيه الشيخ إبراهيم.
ولد بزاوية والده بالأخصاص سنة 1277هـ (1860م) والدته السيدة اعكيدة بنت العربي بن بلخبر الرقيبية المساوية. وهو أكبر من أخيه إبراهيم. كان أكمه العينين؛ فعوضه الله البصيرة الربانية، والفراسة النورانية.
حفظ القرآن في سن مبكرة، ودرس على والده الكثير من العلوم الشرعية.
وذكر ابن أخيه الشيخ محمد المصطفى البصير؛ أن صاحب الترجمة أخذ الطريقة القادرية عن الشيخ ماء العينين، الذي أذن له في تلقين الورد وإرشاد العباد.
وله حكايات عجيبة مع الشيخ ماء العينين منها ما ذكره ابن أخيه الشيخ محمد المصطفى، فقد ذكر ما ملخصه: أنه توجه مرة إلى الشيخ ماء العينين في ناحية “الكريزيم”؛ قرب “السمارة”، وقد صحبه أخوه الشيخ سيدي إبراهيم، وخلال مرورهم بعلي بن الشين الخصاصي، سمع حمحمة فرس بباب الدار فقال لأخيه سيدي إبراهيم: هذه الفرس تقول: يجب أن نشتريها ونحملها هدية إلى شيخنا الشيخ ماء العينين، وكان صاحب الفرس متعلقا بها ويضن بها ولا يفعل شيئا في أمرها وبعد مماكسة وممانعة؛ اشتراها منه بثمن باهظ وأخذها معهما إلى الشيخ ماء العينين، وعندما اقتربوا من مخيم الشيخ سمعوا مؤذنا يؤذن لصلاة العصر فقال الشيخ سيدي محمد: ليس في قلب هذا المؤذن ذرة من إيمان، ثم تبين أن هذا المؤذن الذي يدعى: صبيرة، كان يهوديا متنصرا، يظهر الإسلام كذبا .
وأضاف: أن الشيخ ماء العينين من عادته أنه لا ينتظر بالصلاة عقب الأذان أيا كان، لكنه خالف عادته في هذا اليوم، أمر أصحابه بالانتظار، وصار صاحب الترجمة يحث بغلته على السير ويقول: إن شيخنا ينتظرنا بالصلاة، وفعلا لم تُقم حتى دخلوا عليهم فصلوا معهم ، وقال لهم بعض تلاميذ الشيخ: لقد استأذنا شيخنا في الصلاة، فقال: لننتظر ضيوفا قادمين علينا ورحب بهم كثيرا وقدموا إليه الفرس.. وبعد ذلك أعطى الورد القادري للشيخ سيدي إبراهيم وأكرمهم إكراما حاتميا، ففي الصباح الباكر من اليوم التالي أخذ جملا أورق وألبسه الدراريع البيض وقال لهم: اقبلوا منا هذه الهدية المتواضعة يا آل البصير وأهل البصيرة يا آل النبي صلى الله عليه وسلم وسار معهم في الطريق مسافة طويلة على الأقدام بشيعهم والتلاميذ من حولهم، وتوقف بعد ذلك للدعاء، فدعا لهم وودعهم.
وذكر أيضا: أنه كان رحمه الله يزور الشيخ ماء العينين بين الفينة والأخرى. وبعد وفاة الشيخ صار يزور أبناء شيخه أينما كانوا، وبالأخص سيدي أحمد الهيبة والشيخ النعمة والشيخ مربيه ربه، وكانوا يبعثون إليه يستشيرونه بناء على وصية والدهم لهم في هذا المجال .
ومن ذلك ما جرى له مع الشيخ أحمد الهيبة إبّان بيعته أميرا للجهاد في بلاد سوس حيث استشاره فيما هو بصدده ففي كتاب النزر اليسير أن السيد الحنفي بن الشيخ سيدي محمد روى ما نصه: <<وذات يوم وصل إلينا رسول من الأمير الجديد يطلب من الوالد الحضور على عجل صحبة تلاميذه، فلبينا الدعوة ومعنا ستة أو سبعة من التلاميذ، فوجدنا “تيزنيت” تعج بالخلق الذين تقاطروا عليها من كل فج عميق، لينخرطوا في سلك المبايعين لسيدي أحمد الهيبة على الجهاد في النصارى، والدفاع عن حوزة الوطن من الهجمة الاستعمارية.. كنا مع النازلين في دار الضيافة ثلاثة أيام، وفي ليلة الرابع جاء مناد ينادي على سيدي محمد البصير ونحن بين الملأ، فأجابه الوالد، فقال له: أجب حضرة سيدنا، فقام الوالد ماسكا بيدي ودخلنا عليه في بيت كان يجلس فيه لوحده، فقام إلى الوالد وعانقه عناقا حارا، فأخذ بأيدينا وانزوى معنا في ركن من أركان الغرفة الكبيرة، التي كانت مفروشة بالزرابي المغربية المزركشة الثمينة، فبادرنا الأمير بالسؤال عن أحوالنا العامة، ورحب بنا الترحاب الكبير فقال للوالد: لقد توفي والدي رحمة الله عليه وقد أوصاني قائلا: “كن يا بني من وصيتي هذه على بال، عليك بالقبائل جميعها أسدي لهم النصح وبادلهم بالخير، وأوصيك خاصة بالشرفاء الرقيبات اجعلهم عندك فوق الكل، وبالأخص أهل البصير وخاصة منهم سيدي محمد البصير، فلا تقطع أمرا دون مشورته، فإن كان حاضرا فالزمه واعمل برأيه، فإنه لا يقول إلا الحق ولا يشير إلا صدقا، ولا يعلم إلا من الله، وإن كان غائبا فشد الرحال إليه أو ابعث في طلبه إليك، واعمل بمشورته ولا تخالف له أمرا، فإنه من الذين يرون بنور الله”. وقد أرسلت لكم في أمر أنتم أعلم به منا، وأدرى ببدايته ونهايته، فهذه القبائل قد تقاطرت علينا من جميع الجهات مبايعة، وقد سلف وذكرت لك بيعة علماء فاس وسوس، وهم يريدون منا النهوض لمحاربة أهل الكفر من النصارى، الذين بدأ زحفهم على المغرب من الغرب والشمال ومن الشرق، فقد استنهضوني إلى مراكش قبل أن يحتلها الاستعمار الفرنسي، الذي وصل كما في علمي إلى الشاوية وقريب من الرحامنة، وإني أريد رأيك في الأمر. فأجابه الوالد: لست أدري ما أقول لكم يا سيدي، ومضت برهة من الزمن والكل ساكت وكأن على رؤوسنا الطير، ثم عاد الأمير ثانية: ما رأيك يا سيدي؟ فيجيبه الوالد الله تعالى أعلم، ثم لحّ عليه مرارا وهو لا يجيبه إلا بقوله: الله تعالى أعلم، ثم قال: والله لو كان الشأن يعنيني لقلت لكم ما قال والدكم شيخنا الشيخ ماء العينين للسلطان مولاي عبد العزيز، حين توالت عليه النكبات من كل جانب، وتكالبت عليه أطماع المستعمر من كل حدب وصوب، وانفض من حوله الأتباع… وهو مضطرب الأحوال، ولا طاقة له على تسيير شؤون البلاد، فلم تعد العباد منقادة له، وقال له السلطان: يا شيخنا، إني أريد أن أضع بين يديك هذه الأمانة التي طوقنا الله بها، فإني أراها بكم أليق، لما وهبكم الله من العلم والولاية، ولما تتحلون به من الحكمة والثبات والمعرفة بالله وبأمور الوقت جليلها ودقيقها، فقال له شيخنا: وماذا أنت صانع بعد ذلك؟ فقال له: أصحبك وأكون لك تابعا عبدا لله تحت أمرك ونهيك، فقال له شيخنا: اترك الأمر في المكان الذي وضعه الله فيه… واثبت مكانك حتى يفعل الله ما يشاء، لكن السلطان لم يعمل بما أشار عليه به، فاستفحل الأمر ووقع فيما وقع فيه، وأنت يا سيدي اسمعني أقول لك: إني أريد منك أن تمكث هنا في تيزنيت حتى يمر عليك حول كامل، ويسعى إليك هنا من يحبك ومن يكرهك، ومن تعرف ومن لا تعرف، وتعرف الناس أكثر، وبذلك ستنظم أمرك، وعندها ستميز من هذه الغوغائية الصادق من الكاذب، وتعرف مكان كل منهم وما هو عليه من الاستقامة والاعوجاج، فكما لا يخفى عليك سيدي أن الناس ليسوا على شاكلة واحدة، فقاطعه سيدي أحمد قائلا له: إن الناس ألحوا عليّ في الخروج إلى الجهاد، وسبق أن ذكرت لكم أن النصارى في طريقهم نحو مراكش، وإني أود أن أدخل إليها قبلهم، فقال له سيدي محمد: لتدخلن إليها قبلهم فسأله الأمير: وبدون مقاومة؟ فأجابه الوالد: نعم إنكم داخلون إليها إن شاء الله بدون مقاومة، ولكن لا تلبث فيها إلا يسيرا حتى تخرج منها بالمقاومة>> .
كانت وفاة الشيخ سيدي محمد يوم عاشر محرم سنة 1357هـ (13 مارس 1938م) وقد ناهز الثمانين من العمر. ودفن بالزاوية في الأخصاص بسوس.
عقب من الذرية: اليسع والشافعي والحنفي واليوشع.
المصدر: كتاب الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي؛ الجزء الأول، الطبعة الثانية ص 346-347-348-349. تأليف: الطالب أخيار بن الشيخ مامينا؛ منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتنمية.