الحاجة إلى أنطولوجيا شاملة حول الشعر في الصحراء المغربية

لا جدال في حاجة الباحثين والمهتمين بثقافة الصحراء المغربية وتراثها الفكري والإبداعي إلى أعمال أنطولوجية شاملة تلم شتات تراث الصحراء المغربية الشعري وتعيده إلى الذاكرة وتعرف به الأجيال الحالية لتذرك غنى تراثها غير المادي وتستلهم منه قيم  المحبة والخير والجمال وروح الوطنية الصادقة البعيدة عن الأهواء والنعرات الضيقة.

 وتبرز أهمية الاشتغال بهذا التراث وجمعه في أعمال أنطولوجية شاملة في عدة جوانب، منها:

 

1 ـ مكانة الشعر في الصحراء وقوة حضوره في الذاكرة الثقافية الصحراوية.

فالشعر بنمطيه الفصيح والحساني يمثل أسمى نتائجِ الأفكارِ وأعلى مظاهر التميز الحضاري عند أهل الصحراء، وذلك لما يملكه من طاقات سحرية في التعبير عن المشاعر السامية والأحاسيس الراقية، ولما له من تأثير قوي في النفوس وحضور فاعل في المجتمع، ولذلك تنافسوا في قوله وروايته وتداول نصوصه ، وبلغوا فيه مستوى  عاليا من التمكن والتميز والإتقان.

 وقد ورث أهل الصحراء هذا الولع وهذا التقدير عن السلف،  وتوارتته الأجيال عبر العصور فالشعر حسب تقدير ابن قتيبة “مَعْدِنُ عِلْم العرب، وسِفْرُ حِكمتِها، وديوان أخبارها، ومستَوْدعُ أيامها، والسُورُ ـ  المضروبُ على مآثرها، والخَندَقُ المحجوزُ على مفاخرها، والشاهدُ العَدْلُ يومَ النَفار، والحُجةُ القاطِعةُ عند الخِصَام”[1]، لذلك تداولوه بالحفظ والرواية والكتابة وصناعة الدواوين، واحتفوا به وربطوه بالسحر والعبقرية، وكتبوا نصوصه المميزة بماء الذهب وعلقوها على أستار الكعبة، تقديرا لها ومراعاة لفضلها وقيمتها الحضارية، وأقاموا الحفلات والأعراس احتفاء بنوابغ الشعراء كما هو معروف في تقاليد العرب وأإعرافهم وعاداتهم.[2]

وقد بلغ من تقدير العرب للكلمة الشعرية، واحتفائهم بها وبدور الشاعر في تشكيل القيم وتوجيه الرأي العام، أنهم كانوا يقدمونه على الخطيب “لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويُهول على عدوهم ومَن غزاهم، ويُهيب من فرسانهم، ويُخوِّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم”.[3]

ولمكانة الشعر في الحياة والمجتمع أكد كثير من العلماء والمربين على حفظه واعتماده في التربية والتهذيب وفهم القرآن الكريم، فكان عبد الله بن عباس ينصح المفسرين بالعودة إليه والاستدلال به إذا أشكل عليهم شيء من القرآن، وكان الأندلسيون وأهل الصحراء يعتمدونه مدخلا أساسيا لاكتساب العربية في برامجهم التعليمية.

2 ـ قيمة شعر الصحراء التاريخية والحضارية، فالشعر ديوان الصحراء وسجل أحداثها ووقائعها وأخبار قبائلها ومآثرهم وأيامهم، مثله في ذلك مثل باقي أشكال التعبير الحضارية التي تعبر عن حضور الإنسان في المجال الصحراوي كالخيام والموسيقى والحلي والمصنوعات اليدوية وباقي أشكال التعبير المادية وغير المادية،  لكنه أبلغ هذه الأشكال التعبيرية الحضارية في هذا المجال الممتد تعبيرا وتسجيلا وتقييدا ورصدا لاعتماده الكلمة الصادقة المعبرة عن المشاعر والأفكار والأحاسيس، وقدرته على البوح  عن  مكنون الذات، وتأثيره القوي في النفوس. فمن خلال إيقاعاته تتجسد الذات بصدق وتلقائة، وفي معجمه يحضر تاريخ الصحراء الحقيقي، في أبعاده المختلفة السياسية والاجتماعية والثقاقية والاقتصادية، ومن خلال صوره وأساليبه الفنية تتجلى هموم البدو والرحل وهم يتتبعون مساقط الغيث ومواطن الماء والخضرة ويتأملون الكون ويواجهون تحديات الحياة، وفي ومضاته الفنية تبرز اهتماماتهم الفكرية والحياتية، ومواقفهم السياسية والدينية والمذهبية وتعلقهم بالوطن، وحبهم للحرية وانتصارهم للقيم الإنسانية ورفضهم للظلم وأشكال الجور والتشرذم.

وتبدو هذه الوظيفة التوثيقية التسجيلية التاريخية واضحة بكل جلاء في النصوص التي تضمها بعض المختارات التي جمعها بعض علماء الصحراؤء وفي مقدمتها مختارات ماء العينين يحجب.

ففي هذا العمل الأنطولوجي ـ كما يبدو من نصوص الجيل الأول من الشعراء المؤسسين الذين ارتادوا مجاهل الصحراء وثبتوا جذور الشعر فيها، يحضر المكان بقوة ؛ أرضا وسماء وحيوانا وماء ونباتا وخلقا، وهاجس الارتباط به والرغبة في تخليده وترسيخ حضوره في الذاكرة من خلال الوقوف على معالمه الطبيعية ووصفها، والإشادة بالقيم السائدة فيه، والحرص على حمايته ودرء الأخطار التي تهدده والتعبير عن الارتباط الوجداني والثقافي بالقائمين على تدبير شؤونه وصيانة أمنه ووحدته، كما يبدو من خلال قصائد امحمد بن الطلبة في التغني بمرابع تيرس وآبارها ونخيلها وواحاتها وكثبانها  وصخورها الصامدة التي تتحدى الزمن وتغالب المحو والبلى، وقصائد الشيخ محمد المامي في مدح السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، وقصائد العتيق بن محمد بن الليل وأحمد دكنا البلعمشي في الإشادة بفضائل السلطان الحسن الأول والانتصار للحق وذم التعدي والجور  وقصائد إبراهيم البواري في الترحيب بالوفد السلطاني الذي قدم إلى السمارة لتسلم طرفاية من الإنجليز والإشادة بالشيخ ماء العينين وغيرها من القصائد التي تعبر عن حب الوطن والتعلق به والحرص على وحدته. 

وفي عطاء الجيل الثاني، جيل مدرسة السمارة الأوائل، تتسع دائرة الشعر ويغتني بتجارب مختلفة وموضوعات جديدة تزيد من قوته واتساع آفاقه، ويرتفع منسوب مواكبته لاستكمال بناء الذات وتثبيت الوجود ومواجهة التحديات التي تهدد وحدة المغرب وسيادته انطلاقا من الشرق والجنوب كما يبدو من خلال القصائد الطوال التي تتغنى بفضائل الشيخ ماء العينين ومبادراته الإصلاحية والوحدوية  وجمعه للشمل ومقاومته للمحتل، مثل قصائد اليدالي الديماني في الترحيب برؤساء وشيوخ وعلماء الصحراء الذين حجوا إلى مراكش في ما يسمى بعام التركاب لتجديد البيعة للسلطان عبد العزيز والتعبير عن الاستعداد للدفاع عن الحياض ورد المستعمر، وقصائد الشيخ محمد العاقب بن مايابا الجكني  ومحمد بن عبد العزيز  والشيخ مربيه ربه في التعبير عن حب الوطن  والاستعداد لحمايته والدفاع عن حوزته.  

وفي قصائد الجيل الثالث، جيل النكبة وانفراط عقد الشمل تنحسر موجة الشعر ويخبو أواره وينكفئ الشعراء على ذواتهم ويلوذون بالماضي ويسترجعون لحظاته الجميلة وأطلاله الغابرة كما يبدو في قصائد التشبيب والغزل ورثاء السمارة وبكائها ووصف مجالس الشاي وذكر الأطلال والدمن والحنين إلى الأيام الخوالي.

ومع انطلاق شرارة المقاومة وانبلاج فجر الاستقلال يسترجع الشعر ألقه مع شعراء الجيل الرابع والخامس وينخرط في معركة البناء والوحدة والدفاع عن الوطن وحريته وكرامته ويعانق هموم الإنسان ويعبر عن مشاغله الفكرية والحياتية وتطلعاته وآماله. 

3 القيمة الجمالية لشعر الصحراء، فشعرية هذا الفضاء الواسع كما تبدو من خلال النصوص التي تتتضمنها  مختارات شعر الصحراء وفي مقدمتها مختارات ماء العينين يحجب تنفرد بجمالية خاصة تميزها عن شعرية باقي فضاءات الشعر في المغرب، هي جمالية المكان البدوي في سحره وجاذبيته، وشغف الإنسان به وتعلقه بالقيم الفكرية والوجدانية والجمالية التي يحملها، فعلى الرغم من قساوة هذا الفضاء زمن البداوة، وعلى الرغم من التحولات التي طرأت عليه بعد أن غمرته لجج الحداثة القادمة من الشمال، لم يستطع شعراؤه على امتداد الأجيال التي تعاقبت عليه الانفلات من أسر الصحراء وقيمها الكامنة في اللاشعور الجمعي الصحراوي فظلوا يرحلون في شعرهم ويذكرون الخزامى والشيح والقيصوم، والموماة والبيداء والجيهل والعرندس والظبي والمهاة  وغيرها من مظاهر الحياة البدوية التي تمثل رحم الأمومة أو كهف الأحلام والذكريات ويتخذونها رموزا لمواجهة التهميش وتأكيد الهوية المرتبطة بالفضاء الأوحد والشاسع والمتمايز، وقد أضفت هذه الميزة على شعرهم طابعا خاصا يجمع بين الأصالة والتفرد. 

  4 ـ أهمية العمل الأنطولوجي في صيانة الذاكرة الشعرية والمحافظة عليها وإعادة تشكيلها، فالأعمال الأنطولوجية، وخاصة في مجال الشعر تصون التراث الشعري وتحفظه من الضياع، وتجعله دائما حيا في ذاكرة التاريخ، يتعرف الباحثون والمهتمون من خلاله على اهتمامات مبدعيه ومشاغلهم الوجدانية والفكرية والسياسية والاجتماعية  ومواقفهم ورؤيتهم للكون والحياة وينطلقون منه  لمعرفة تاريخ الشعوب وإعادة تشكيل  تاريخها الحقيقي، ولذك حظي هذا الضرب من التأليف باهتمام العلماء منذ القديم، فأنجزت فيه أعمال كثيرة ما تزال مرجعا للباحثين والمهتمين في اللغة والقيم الأصيلة والبلاغة الراقية، مثل المعلقات والأصمعيات واالمفضليات والحماسات وغيرها من الأعمال الأنطولوجية البارزة في تاريخ الثقافة العربية.

4 ـ غياب أعمال أنطولوجية جامعة لشعر الصحراء المغربية. 

فقد أوتي أهل الصحراء قدرة خارقة على  قول الشعر وحفظه وروايته، فأبدعوا  فيه أشعارا  تثير الإعجاب وتأخذ الألباب جعلت بعض الباحثين يشبههم في سهولة قوله بمن يتنفس الهواء أو يشرب الماء، وقد تحدث كثير من الذين تعرضوا لشعر الصحراء عن هذه الخاصية التي تميز بها قائلوه بإعجاب. يقول الشيخ محمد الغيث النعمة في كتابه “الأبحر المعينية في الأمداح المعينية “في الحديث عن شاعرية صُلاحِ بن الشيخ محمد المامي، وهو من شعراء تيرس: إنه كان يرى الشعر مكتوبا في عالم الغيب على ذراعه الأيمن،[4] ونفس الخاصية تميز بها الطالب أخيار بن الشيخ ماء العينين، فقد كان لا يقول الشعر وهمَّ بقوله، ففتح الله عليه فيه وأصبح يقوله بلا سبب، [5]وقد أكد المختار السوسي هذا الانسيابية الطبيعية التي ميزت شعرية أهل الصحراء وشنقيط عامة ، فلاحظ أن الشعر عندهم أسهل من النفس، وأنهم يقولون الشعر كما يتنفسون الهواء.

وقد أثار حضور هذا اللون الأدبي وتميزه وقوة سلطانه استغراب كثير من الباحثين الذين أرخوا للشعر في هذه المنطقة، فحاول بعضهم البحث عن جذور هذا التميز في ثقافة الصحراء وأجوائها وعاداتها وتقاليدها وبرامجها التربوية والتعليمية، وربطها البعض بالمركزية المشرقية التي جعلت من الصحراء قطعة شبيهة بمهد الشعر في شبه الجزيرة العربية، واعتبرها البعض حركة بعثية ألهمت حركة البعث والإحياء في مصر والشام. 

وقد تحصل لهم من هذه القدرة وهذا التمكن  شعر غزير وعطاء وفير لم تزده الأيام إلا قوة وغنى، لكنهم لم يعتنوا بجمعه وتدوينه، وذلك لظروف حياتهم الصعبة وغلبة الرواية على ثقافتهم وميلهم إلى الحفظ وزهدهم في الكتابة، وخاصة في البدايات الأولى لانطلاق الحركة الثقافية في الصحراء،  فلف الضياع الكثير من تراثهم الشعري وغابت حلقات كثيرة منه، ولولا بعض المبادرات الأولى لحفظ هذا التراث في بلاد شنقيط والسمارة وفاس وسوس في بداية القرن الرابع عشر ككتاب الوسيط والأبحر المعينية والنفحة الأحمدية ومختارات يحجب بن خطر  وغيرها، وقدرة الرواة على الحفظ وتسلسل الرواية عبر الأجيال لما وصل إلينا منه إلا القليل. 

لكن هذه الجهود التي بذلت في جمع هذا التراث على أهميتها غير كافية ولا ترقى إلى مستوى العمل الأنطولوجي الدقيق في شموليته وعمقه، ولا تحيط بشعر الصحراء في أزمنه المختلفة وفضاءاته المتعددة وفنونه المتنوعة، فضلا عما يحكم بعضها من توجهات إقليمية ضيقة 

فكتاب “الأبحر المعينية في الأمداح المعينية[6]” للشيخ محمد الغيث النعمة المتوفى سنة 1920 على الرغم من ضخامته  وأهميته وقيمته العلمية ودقة المعلومات التي يحويها عن الشعر والشعراء في الصحراء لا يفي بالحاجة لأن    يقتصر على الشعراء الذين مدحوا الشيخ ماء العينين من مختلف المناطق المغربية، منهم عدد كبير من شعراء الصحراء.

ـ وكتاب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط[7] لأحمد بن الأمين الشنقيطي، المتوفى سنة 1331 هـ، يركز على شعراء شنقيط، ويغيب فيه ذكر الكثير من شعراء المجال الصحراوي الشمالي.

وكتاب النفحة الأحمدية في بيان الأوقات المحمدية للشيخ أحمد بن الشمس لا يخرج عن الإطار المنقبي الذي يؤطر مادته، وهو عرض الأشعار التي قيلت في مدح الشيخ ماء العينين.

وكتاب الشعر والشعراء في موريتانيا للمختار ولد اباه لم يبتعد كثيرا عن نهج الوسيط، فضلا عما فيه من خلط بين شعر الصحراء المغربية وموريتاني.

ومختارات يحجب بن خطر على الرغم من قيمته الأدبية والتوثيقية، يفتقر إلى تراجم الشعراء ولا يستوعب العطاء الشعري الصحراوي في أزمنه المختلفة وأجياله المتعاقبة.

وكتاب المنتقى المعين لعبد بن نصر العلوي لم يستطع الانفلات من قبضة الشيخ أحمد بن الشمس والشيخ النعمة، ولم يضف إليهما جديدا، فضلا عما فيه من خلط بين شعر الصحراء وموريتانيا.

لهذه الاعتبارات وغيرها بات ضروريا  رتق فتق هذا التراث القيم الذي لا يقل أهمية عن باقي أشكال التراث المادية وغير المادية التي تزخر بها هذه المنطقة.


المصادر: