
توطئة:
شاء الله أن يكون الشيخ ماءالعينين من الرجال الذين جمعوا بين نشر العلم و الاصلاح ثم السعي إلى الجهاد، تجربة تكررت في تاريخنا الإسلامي و العربي، حيث سنة الله في خلقه، تتدافع الأحداث و المجتمعات لتجدد ذاتها بخروج شخصيات من رحمها تحمل لواء الانبعاث.
الجميل أن الشيخ ماءالعينين جمع بين الصوفي ( الذي من طبعه المهادنة و عدم الاشتغال بالدنيا) و بين المجاهد الحركي الذي يأمل في صلاح المجتمع و يؤثر فيه من أجل الدين و الدنيا معا.
راكم البعض انطباعه السلبي اتجاه الحركات الصوفية خاصة في تعاملها السلبي مع الاستعمار، هذا الانطباع تؤججه نعرات طائفية مغايرة، أو استنتاجات تستند إلى بعض الأمثلة في عالمنا الاسلامي.
غير أن واقعا آخر، خلقته نماذج عدة و في دول مختلفة، فكثير من مجاهدي العالم الاسلامي،الذين قاوموا الاستعمار كانوا من زعماء الطرق الصوفية أو من منتسبيها، عبد القادر الأمير الجزائري، عمر المختار الليبي و السنوسية من وراءه، الإمام المهدي السوداني و آخرون في أقاليم شتى من بلاد آسيا…
في مجتمع بدوي متواضع، إطاره القبيلة، لا تتوفر فيه مقومات حضارية مماثلة لباقي أرجاء البلاد الاسلامية من تمدن و عمران،حاول الشيخ ماءالعينين الانتقال بمجتمعه الصغير الذي التف حوله إلى مرحلة تنتظم فيها الحياة داخل طابع مؤسساتي متمدن، هذا الانتقال تبلور في بنائه لمدينة السمارة و تعيينه قضاة و تكليف بعض أبناءه و مريديه بأمور تدخل في نطاق تسيير الشأن المعاشي لمجتمعه.
مسيرة حافلة من الرحلات و المشاهدات مع قراءة لوضع اقليمي و دولي،وقف من خلالها الشيخ على كثير من الأمور المستحدثة التي ساهمت في تفعيل رؤيته.
مشروع الشيخ ماءالعينين كان أيضا جهاديا بامتياز، في جوهره سير على نهج السيرة النبوية، في ثنائية الهجرة و الاستقرار، ثم الدعوة للجهاد و النفير إليه، حين بدأت القوات الفرنسية تقترب و معها التدخل الأجنبي بعمومه، فواجهها الشيخ دون تردد، وحمل القلم و ألّف و راسل و تواصل…، جاءته القبائل و اجتمعت حوله، كلمتها سواء على الجهاد، فدعمها الشيخ بتواصل مع ملوك الدولة العلوية لجلب الدعم و السلاح…حتى اعتبر الغازي الشيخ من أهم المحرضين ضد تقدمه و توغله.
لا يتوقف دور الشيخ عند هذا الحد، فأزمة البيعة أظهرت مكانة الشيخ وطنيا، كما أظهرتها شروط الفرنسيين بعدها على السلطان مولاي عبد الحفيظ، التي تضمنت نقطة توقيف الدعم عن الشيخ.
من جملة من كتب عن الشيخ من معاصريه، وصف صاحب الوسيط لمشاهداته حين نزوله بالسمارة و لقائه بالشيخ ماءالعينين، فكتب واصفا ما حاولنا تطفلا في أول المقال الحديث عنه، وهو تلك البذرة المجتمعية للتي زرعها الشيخ و تكفل برعايتها رغم كبر سنه، و لعل وصف المعاصر أبلغ، فكان خاتمة القول:
من حديث أحمد بن محمد الأمين العلوي(1913/1872م) عن الشيخ ماءالعينين:
“وما جاء بعد الشيخ سيدي مثله، في إقبال الناس عليه وإنفاقه. حج في أيام السلطان مولاي عبد الرحمن – رحمه الله – وتردد على السلطان مولاي سيدي محمد. وكان حظه في أيام السلطان مولاي الحسن، أحسن منه في أيام أبيه وجده، وهو في أيام مولاي عبد العزيز، أحسن من أيام مولاي الحسن، وصارت له مراكش أملاك طائلة، من زوايا، ودور، وبساتين، ومزارع، وكان هذا الشيخ فاضلا كريما، لا يوجد أحسن منه أخلاقا، وقد اجتمعت به حين خروجي من مدينة شنقيط إلى مراكش، في توجهي إلى الحجاز. ورأيت منه ما حيرني، لأني أقدّر من معه في وادي اسمار من الساقية الحمراء، بعشرة آلاف شخص ما بين أرملة ومزمن، وصحيح البنية، وكل أصناف الناس، وكل هؤلاء في أرغد عيشة، كاسيا من ذلك الشيخ، ويزوج الشخص ويدفع المهر من عنده، ويجهز المرأة من عنده، مع حسن معاشرته لهم، لا فرق عنده بين ولده والمحسوب عليه، ولا يمضي عليه يوم، إلا وقد بعث قافلة تأتيه بالميرة، وقدمت إليه أخرى تحملها، ومتى بلغ الإنسان قريبا منه، يسمع دوى مريديه يذكرون الله، وينشدون الأدعية، ورأيته في تلك الأيام التي أقمت عنده، لا تفوته صلاة الجماعة في أول الوقت، مع كبر سنه، وضعف جسمه، وبعد صلاة العصر، يسردون له الحديث، وهو يسمع، ثم يشرح لهم بعض المواضع منه...”[1]
هذه جملة الإشارات سريعة من حياة و سيرة الشيخ ماءالعينين سنحاول في القادم من الكتابات، الوقوف على بعضها مع الاستشهاد بنصوص من معاصريه و ممن كتب عنه.
يتبع………..
[1] كتاب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط،ص 365 و 366، أحمد الأمين الشنقيطي