
من الحكايات التي سمعناها عند أوائل الاسرة تلك التي تتعلق ’”بعام مجي النصارى الاول لأطار”، الذي يطلق على قدوم مهمة تجارية مجندة يرأسها فرنسي يدعى ابلانشي مصحوبا بالمترجم الشهير محمدن ول ابن المقداد “دودو سك شهرة “…وتقول الرواية التي سمعتها كثيرا مذ عهد الطفولة و من مصادر مختلفة أن الأهالي في مدينة اطار حاصروا النصارى وجندهم و من معهم و طلبوا من ابن المقداد ’’ ان لا يبقي مع النصارى ’’ بحجة أنه ’’ مسلم و انهم لا يريدون قتله المحرم عليهم ’’ فأجابهم بمقولة أبى البختري الشهيرة :
لا يُسلم ابنُ حرة زميلَهُ…حتى يموت أَو يرى سبيله
و تتحدث الرواية عن وساطة من جدنا عبد الله ولد احمدو ولد محمد سالم (*) في تلك المعضلة أدت إلى اتفاق يعلن النصارى بموجبه اعتناقهم للإسلام و بالمقابل يتم تأمينهم في طريق العودة إلى مدينة سان لويس و تقرر أن يصحبهم عبد الله نفسه في سفر العودة.
ومعلوم أنه سافر بالفعل معهم، وتقول الحكاية أن عند وصولهم إلى مشارف اندر فجرا، استيقظ عبد الله للأذان ثم أقام الصلاة و لاحظ بعد ذلك هو و من معه من المسلمين أن النصارى استمروا في نومهم…فقال له بعض المرافقين : “لمرابط انت اتلاميدك ابانو أنواو ,,,,”
هذا ما تقول الرواية الشفهية التي قد لا تخلو كغيرها من حكايات الأهالي بخصوص أزمة الرهائن الفرنسيين إبان ما يعرف بمهمة ابلانشي من الطابع الاسطوري، والتي تترك أحيانا الباحث في موقف الحيرة بسبب افتقادها للدقة و عدم توفر أدلة تثبتها ,,
الأكيد أن عبد الله ولد احمدو كان يسافر الى السنغال، حيث مكث مدة من الزمن، ومارس التجارة هنالك و تزوج من عيساتا تال البولارية التي هي أيضا أم لأسرة أهل بونعامه الكنتية و كذلك لأسرة ال ديا اليولارية…و لعبد الله من زوجته السنغالية ولده المعروف بسيد أحمد تبان ( نسبة الي التسمية التي يطلقها الولوف علي قبيلة المدلش او المجلس )، وسيد أحمد هذا هو أول من رفع الآذان في قرية بالقرب من يانجول في غامبيا حيث توطن بعد أن أقام بين عدة مدن سنغالية ,,, وكان يعلم الناس القرآن و اللغة العربية، ويوجد بعض أحفاده حاليا في موريتانيا و البعض في السنغال و غامبيا، و قد ورد ذكر تجارة عبد الله في السنغال في كتاب بول مارتي الخاص بقبائل شمال موريتانيا كما أشار إليها العلامة محمد عالي بن سعيد “معِ”شهرة ضمن أبيات مشهورة في المحظرة بقوله : أَمْوَالُهُ مِنْ جَوْدَةٍ كَالْيَرْمعِ….
كما أنه من المعلوم عندنا، أن عبد الله كان من أوائل التجار الذين استجلبوا بالتعاون مع الفرنسيين مادة الأرز إلى مدينةروصو موريتانيا، حيث تم عرضه في المكان المعروف حاليا بالسطارة بغية تسويقه للأهالي و إدخاله في عاداتهم الغذائية ,,,, و معلوم أيضا أنه كان صديقا لابن المقداد حسب ما وصلنا من أخباره، و لكن الرواية الشفهية المذكورة آنفا بقيت بالنسبة لي غامضة، حول ما جرى إبان احتجاز الفرنسيين خصوصا ان بطلها لم يرد ذكره في تقرير ابن المقداد، إلى أن مدني عزيزنا حمود عبد العزيز المقيم في ألمانيا،أمد الله عمره و جازاه خيرا لما قدم من خدمات للبحث و للباحثين ,,, بالمقال الاصلي لجريدة لماتين الفرنسية التي كانت وراء مهمة بلانشي و التي تصف بدقة في رواية أحد الناجين من أفراد البعثة وقائع دخول فرقة النصارى و أتباعهم لمدينة أطار…و ظروف محاصرتهم….و كيف استقبلهم الأهالي من فوق اسطح المنازل بالحجارة و بالبصق ,,, وغياب الأمير المختار ولد عيده رحمه الله الذي يسميه الراوي ’’ ملك أطار’’، و الحيلة التي لجأ اليها هذا الأخير بإصدار فتوى ممن سماه القاضي عبد الله ولد محمد سالم,,,,, لتسليم النصارى إلى سلطان المغرب.
هنالك بدأت الصورة تتضح فى ذهني ,,,, واضح أن عبد الله ولد احمدو لعب دورا في الأزمة، أدى إلى انقاذ الرهائن الفرنسيين و ربما يكون خبر اسلامهم مجرد إشاعة بثت ساعتها لتهدئة الجموع المتحمسة لقتلهم ,,, و ربما يكون التباس وقع في تسمية عبد الله بصفة القاضي نتيجة للصلة الوثيقة التي تربطه بصديقه الحميم و صهره القاضي محمد سدين ولد برو الذي أقنع جماعة المسجد برأي عبد الله، ومن غير المستغرب أن تكون الرسالة التي بعثها الشيخ سعد بوه إلى علماء أدرار، والتي ذكرها ابن المقداد في تقريره كانت تعني عبد الله في المقام الأول نتيجة لما يربطه به من أواصر مأثورة في قصيدة لعبد الله في الفاضلييين أبناء الشيخ محمد فاضل , تلك القصيدة التي أوردها أحمد شمس في كتاب النفحة الأحمدية و قال انها آخر ما ارسله عبد الله إلى الشيخ ماء العينين و كانه مودعا و مطلعها:
إن الأفاضل قد عمت مآثرهم..كل الاقاصي كما عمت مجاور هم
سارت بمدحهم الركبان قاطبة..شرقا وغربا لفضل كان غامرهم
و ما من شك أن هذا المقال الأصلي الذى خصصته الجريدة الفرنسية للأحداث غداة في عهد قريب من وقوعها يفتح صفحة في التحقيق حول أزمة كبرى هزت مدينة اطار في مطلع القرن العشرين، في أيام الفوضى العارمة التي تلت سقوط الدار على الأمير احمد ولد سيد احمد,,, و قد توفي عبد الله بعد الحادثة بسنتين و دفن في مقبرة اولاد ميجه ,, ’’ بصالحين الطلحيات ’’ سنة 1902 م…قبل دخول النصارى الغازين بسبع سنوات و بعد أن بعث بعض أبناءه إلى الجهاد تحت راية الشيخ ماء العينين ,,, و تشهد له في الجهاد ضد المستعمر أبياته التي أوردها الشيخ محمد العاقب ولد ميابي في كتاب مجمع البحرين ,,,, قائلا : ’’و قد صدق و أحسن عبد الله ولد احمدو ولد محمد سالم حين وصف تلاميذ شيخنا بقوله’’:
َلمَّا رَأَيْتُ الشَّيْخَ مَا الْعَيْنَيْـ …ـنِ وَحَوْلَهُ حِلَقٌ عَلَى الذِّكْرِ
رُهْبَانُ لَيْلِهِمُو نَسُو أَمْوَا …لَهُمُ ابْتِغَاءَ تِلَاوَةِ الذِّكْرِ
مِنْ كُلِّ أَشْعَثَ بَاذِلٍ لِلنَّفْـ …ـسِ هَوَاهُ فِي مَحْجُوبَةِ الْخِدْرِ
عَزَمُوا الْجَلَاءَ وَوَدَّعُوا وَطَنًا…تَرَكُوا الثُّغُورَ كَوَاشِرَ الثَّغْرِ
نَادَيْتُ مُنْشِداً اثْرَهُمْ أَشْدُو… وَالدَّمْعُ بِالْخَدَّيْنِ وَالنَّحْرِ
“لَا يَبْعُدَنْ قَوْمِي الذِينَ هُمُو …سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجَزْرِ
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ …وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ”
رحم الله الجميع
بقلم:السفير عبد القادر ولد محمد
(*) وصف الشيخ أحمد بن الشمس في كتابه النفحة الأحمدية (ج2 ص73) العلامة الكبير عبد الله بقوله “ العلامة المشارك ذو الحفظ و التوسع في العلوم صاحب التأليف نظما و نثرا وجودة نظمه لا تكاد توجد في الرجز و لا في غيره من البحور و من أنظامه نظم المختصر و نظم في أحكام الحبس و نظم في مناقب الإمام مالك رحمه الله”.
صورة المقطع من جريدة نشرها الاستاذ عبد القادر على صفحته التواصلية