المقاصد الأخلاقية في التربية الصوفية قراءة في كتاب “قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق

إن طبيعة المرحلة التي تمر منها الأمة الإسلامية اليوم هو ما يجعل الحديث عن التصوف الإسلامي يكتسي أهمية بالغة في نظر كثير من المفكرين. غير أنه إذا كانت كثير من أسئلة الدرس الصوفي قد نالت عناية كبيرة من لدن باحثين متخصصين، فإن أسئلة أخرى لم تحظ بنفس العناية؛ ومن ذلك سؤال الأخلاق؛ أي ما هي المقاصد الأخلاقية في التربية الصوفية؟ وهذا ما تطرحه هذه الورقة البحثية.

ونظرا لوفرة ما ألف في التصوف الإسلامي قديما وحديثا ارتأيت أن تكون الإجابة من كتاب يكاد يكون مرجعا لا غنى عنه للباحث عن التصوف الإسلامي؛ الذي ينطلق من الوحي ويحتكم إليه، إنه كتاب “قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق؛ وهذا الاختيار له ما يبرره على المستوى العلمي والمنهجي:

أولا: لأن كتاب “قواعد التصوف” هو تأصيل وتقعيد شرعي للتربية الصوفية الملتزمة بالكتاب والسنة، ذلك أن الشيخ زروق هو أحد المتصوفة المغاربة الذين عرفوا بتقيدهم بالوحي تأصيلا وممارسة.

ثانيا: لأن صاحب الكتاب تميز بفكره الوسطي المعتدل في تصوفه؛ وهذا طابع يطبع التصوف المغربي عموما.

ثالثا: نظرا للعلاقة الوطيدة بين التصوف الإسلامي والفقه المالكي؛ وهذا ما سعى الشيخ زروق إلى إبرازه من خلال مجموعة من القواعد العلمية والضوابط الشرعية التي يؤكد من خلالها أن “لا تصوف إلا بفقه؛ إذا لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف؛ إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه ولا هما إلا بإيمان إذ لا يصح واحد منهما دونه”[1].

وقبل أن أبسط القول في الموضوع لابد من نبذة موجزة عن الشيخ زروق، وعن كتابه الذي اخترناه موضوعا للدراسة، ثم الوقوف عند أهم معالم المنهج المتبع فيه. فأما الشيخ أحمد زروق البرنسي الفاسي (ت: 899 هــ) فهو أحد أقطاب التصوف الإسلامي في المغرب، وأحد الأعلام الأفذاذ الذين أصلوا للتربية الصوفية من القرآن و السنة، كما أنه انتقد البدعة وحاربها في الممارسة الصوفية، دون تعصب لأي طريقة؛ إذ جعل الوحي ميزانا ينطلق منه ويحتكم إليه، كما جعل الفقه في خدمة التصوف. “وما من شك في أن الشيخ أحمد زروق رغم ما قدمت عنه من أبحاث ودراسات متنوعة، فإن عالمه ما زال مليئا بالدرر والنفائس، التي تستلزم مزيدا من التنقيب في مكنوناتها وتفاصيلها”[2]،خاصة فيما يتعلق بسؤال الأخلاق في التربية الصوفية.

ويعد كتابه “قواعد التصوف” الذي أتشرف بتقديمه لقراء مجلة قوت القلوب صورة حقيقية للتصوف الإسلامي الذي يجعل من أسمى غاياته إصلاح القلوب، من خلال طائفة من القواعد التي تؤصل للمقاصد الأخلاقية التي يشترط توفرها في المؤمن عموما، وليس المتصوف فحسب، سواء في علاقته مع خالقه سبحانه، أو مع نفسه، أو في تعامله مع الناس. و الكتاب من الحجم المتوسط، بحيث لا تتجاوز صفحاته 303 صفحة، وقد طبع عدة طبعات.

و أما منهجه في كتابه هذا فيمكن تلخيصه في النقط الآتية:

– ينطلق من الكتاب والسنة ليؤصل للقاعدة، أو يعلل الفكرة.

– لا ينتقد فقط من أجل النقد، وإنما ينتقد من أجل إتمام البناء.

– يعرض آراء العلماء في المسألة، ثم يوجهها ويرجح منها ما رجحه الدليل.

– يرد كل بدعة يقتضيها سياق الكلام، حتى ولو خالف فيها شيوخه.

أولا: البعد الأخلاقي في تصوف الشيخ زروق

ينطلق الشيخ زروق في كتابه من قاعدة أساسية، هي في تقديري الأرضية التي يبني عليها كل الأطروحات والأفكار؛ وهيأن علم التصوف علم مختص في “تمرين النفس لإثبات حسن الخلق، ودفع سيئها”[3]، ويعرف الخلق بأنه هيئة راسخة في النفس، تنشأ عنها الأمور بسهولة، فحسنها حسن وقبيحها قبيح. و هو بهذا التعريف لا يختلف عن كثير من علماء التصوف الإسلامي الذين اعتبروا التصوف علم أخلاق بامتياز؛ فهذا ابن القيم يقول: “اجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق”[4]. وهذا الإمام الجنيد البغدادي يعرف التصوف بأنه:“استعمال كل خلق سني،

وترك كل خلق دني”[5]بل لقد اشتهرت في هذا الباب أن “من زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك في التصوف”[6].

ومن الجدير بالذكر هاهنا أن أبين أن الأخلاق في تجربة الشيخ لم تكن مجرد نظريات فلسفية، وإنما كانت تجربة وممارسة عملية؛ إذ “التحلي بأخلاق الإيمان ليس ضربا من العلوم النظرية كباقي العلوم الأخرى، وإنما هو عملية ذوقية ووجدانية، وهو أمر لا يكتسب إلا بالتربية والممارسة”([i]).

وفي نظره أن الأخلاق النفسانية لا تعتبر بالعوارض الخارجية إلا من حيث دلالتها عليها؛ ومن الأمثلة التي يضربها لذلك مثال البخل والسخاء. يقول رحمه الله: “فالبخيل من ثقل عليه العطاء، ولو لم يبق لنفسه شيئا، والسخي من سهل عليه العطاء، ولو لم يعط شيئا”([ii]).

وبناء على ذلك يقسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق جبلية وأخرى مكتسبة؛ فأما الأولى فقد تحدث عنها في القاعدة [179]؛ حيث أشار إلى أن النفس مجبولة على بعض الأخلاق، ومن ثم فهي جبلية في الجميع ولا يصح انتفاؤها؛ غير أنه يبقى التفاوت فيها بين الناس من حيث القوة والضعف، ومن حيث كذلك تحويلها عن مقصدها الأصلي إلى مقاصد أخرى. و من ذلك الطمع مثلا؛ فالنفوس كلها مجبولة عليه، لكن المقصود الشرعي منه هو أن يتعلق القلب بما عند الله، توكلا، ورجاء، وأن يحرص على الدار الآخرة بدلا من الحرص على الدنيا.

وأما كون بعض الأخلاق والمحاسن تكتسب بالتمرن فقد أشار إليه في القاعدة [188]، حيث يقول: “اكتساب الأخلاق عند الحاجة إليها بزوال ضدها متعذر إلا بتوطين متقدم، وإلا تعب مريدها فيه”[7]مستدلا على ذلك بحديث: “إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يطلب الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه”([iii]).

ثانيا: مجالات المقاصد الأخلاقية عند الشيخ زروق:

نظرا لوفرة المادة الأخلاقية التي تضمنها الكتاب ارتأيت أن أقسمها منهجيا إلى ثلاثة أقسام: وهي أخلاق المتصوف في علاقته بربه، وفي علاقته بنفسه، وفي علاقته بالخلق؛ وهذا التقسيم مأخوذ من كلام نقله زروق عن شيخه الحضرميفي خاتمة الكتاب: “ارتفعت التربية بالاصطلاح، ولم يبق إلا الإفادة بالهمة والحال، فعليك بالكتاب والسنة، من غير زيادة ولا نقصان”. و ذلك جار في معاملة الحق والنفس والخلق، فأما معاملة الخلق فثلاث: إقامة الفرائض، واجتناب المحرمات، والاستسلام للأحكام.

وأما معاملة النفس فثلاث: “الإنصاف في الحق، وترك الانتصاف لها، والحذر من غوائلها في الجلب والدفع، والرد والقبول، والإقبال والإدبار. وأما معاملة الخلق فثلاث: توصيل حقوقهم لهم، والتعفف عما في أيديهم، والفرار مما يغير قلوبهم، إلا في حق واجب لا محيد عنه”([iv])؛ وكأني بالشيخ زروق – وهو ينقل هذا الكلام عن شيخه– يلخص المعالم الكبرى للتصوف الإسلامي.

  1. أخلاق المتصوف في صلته بالحق سبحانه:

إن التصوف الذي يؤصل له الشيخ زروق ليس تصوف الشطحات والرموز، وإنما هو التصوف الذي “قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله عما سواه”[8]. ومن ثم كان أول ما يؤكد عليه الشيخ في علاقة الإنسان بخالقه سبحانه هو تحقيق الإخلاص، إذ لا يمكن لأي عمل أن يقبل من صاحبه إلا إذا مخلصا فيه؛ وهو كما يعرفه هو أن يفرد العبد قلبه لله تعالى، ويتخلص من كل ينافي ذلك من رياء وعجب وطمع في ما بأيدي الناس؛ فهذه كلها نواقض الإخلاص.

وخلافا لما يظنه البعض من أن إظهار العمل يتنافى مع الإخلاص يذهب زروق إلى أن إظهار العمل وإخفاءه عند تحقق الإخلاص أمران سيان، إذ المقصد قد تحقق؛ ونحن حينما نرجع إلى القرآن نجد آيات كثيرة تتحدث عن هذا؛ فالله تعالى يشير في سورة البقرة إلى أن إبداء الصدقات وإخفاءها أمران فيهما خير، إذ لا يتناقضان عندما يكون القصد هو وجه الله.

وبناء على ذلك يحدد مفهوم الصوفي بأنه “العامل في تصفية وقته عما سوى الحق” ومن المعلوم أن الحديث عن التصفية هو حديث عن إخلاص النية.وهذا ما يؤكده في القاعدة [11]،حيث يبين أن أهمية التصوف لذي توجه صادق، أو عارف محقق، أو محب مصدق، أو طالب منصف، أو عالم تقلده الحقائق، أو فقيه تقيده الاتساعات؛ فإذا لم يكن كذلك فليس بمتصوف.

ولما كان الإخلاص متعلقا بالعمل كان لابد من أن نتساءل: ما الباعث أصلا على هذا العمل؟ ونحن نتصفح الكتاب نجد الجواب في القاعدة [212]، وفيها يرى الشيخ زروق أن من بواعث العمل وجود الخشية: وهي–كما يعرفها -تعظيم يصحبه مهابة. ويعلل ذلك بأن “مبدأ خشية الله تعالى التي هي نتيجة معرفته، ومقدمة اتباع أمره وغايته،إفراد القلب له تعالى[9].

ومما يقتضيه إخلاص العمل لله تحقيق الحب له ولرسوله؛ وقيمة الحب بهذا المعنى كفيلة بأن تجعل الإنسان سعيدا في الدنيا و الاخرة؛ إذ يتذوق حلاوة الإيمان إلا المحبون المخلصون. وقد جاء في الحديث: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار”[10].

فالحب بهذا المعنى “علامة كمال العمل على رضا المحبوب، فإن خرج عن كل وجه يرضيه فلا، وبعض التقصير لا يضر […] والمحب لا يرضى بمخالفة حبيبه، فهو لا يمكن منه الإصرار، وإن غلب بشهوة ونحوها بادر لمحل الرضا من التوبة والإنابة”([v]).

ومما ينبغي للمتصوف تحقيقه بعد الإخلاص لله التزاما لتقوى، وغاية ذلك-كما يقول صاحب الكتاب– هي “التمسك بالورع، وهو ترك ما لا بأس به -مما يحيك في الصدر – حذرا مما به بأس […] و منه التورع عن اليمين في الحق بالحق من غير إكثار([vi]). و قد استدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يترك ما حاك في الصدر”([vii]). ويزيد المسألة وضوحا عندما يتحدث عما يحتاجه الشيخ المربي، فيبين أن ذلك “لا يتم له إلا بورع صادق في تصرفه، نتيجة عدم رضاه عن نفسه، وزهد كامل نشأ عن حقيقة إيمانية تهديه لترك ما سوى الحق سبحانه، وتأدب كامل بمن صح أدبه”([viii]).

ومن كمال التقوى – يقول الشيخ – وجود الاستقامة، وهي: “حمل النفس على أخلاق القرآن والسنة […] ولا يتم أمرها إلا بشيخ ناصح، أو أخ صالح يدل العبد على اللائق به لصلاح حاله، إذ رب شخص ضره ما انتفع به غيره”([ix]).

ومن تلك الأخلاق نجده يتحدث عن تحقيق حمد الله وشكره، وحسن التوكل عليه في السراء والضراء، وكذلك الرضا عنه بالقناعة، بالإضافة إلى استحضار مراقبته في السر والعلن، وهذا هو مقام الإحسان، الذي اعتبره مقام التصوف. يقول رحمه الله: “فأصل التصوف مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”[11].

ويلخص الشيخ زروق ذلك كله في جملة من الضوابط التي بها يتمكن المؤمن من إصلاح قلبه وتحصين نفسه من الآفات؛ وعلى رأس ذلك حفظ حرمة الربوبية. يقول رحمه الله: “فإذا عقدت مع الله عقدا إياك أن تحله إلا أن يحله عليك الشرع بوجه لا خلاف فيه ولا تردد، وإذا عزمت مع الله تعالى في شيء فلا تتوقف حتى تمضيه، ولا تؤخر طاعة وقت لوقت فتعاقب بفوتها أو بفوت مثلها، ولا تقدم على أمر حتى تعلم حكم الله فيه جملة وتفصيلا، فإن من لم يحفظ الحرمة فقد أعان الشيطان على نفسه”[12].

  1. أخلاق المتصوف في علاقته بنفسه:

من المعلوم في تاريخ الفكر الإسلامي أنه وقع خلط كبير في تحديد مفهوم النفس، والتمييز بينه وبين مفهوم الروح؛ بحيث صار من العسير التمييز بينهما في كثير من الأحيان. وزروق ذاته لا يقدم لنا تمييزا واضحا بينهما؛ وهو في كل أعماله يشير إلى النفس على أنها عنصر الشر في الإنسان، ويتحدث عنها في مواجهة القلب الذي هو محل الطهر والنقاء ووسيلة الخلاص.

ونستطيع من خلال إشارات الشيخ أن نستنتج أن النفس تكون طاهرة في مرحلة ما قبل الولادة، فإذا ما صارت عنصرا في الجسد أصبحت سجينة المادة، ونسيت كل ما هو خير، ثم انغمست في عالم الشهوات والنزوات. ومن هنا نجده يشير إلى التصنيف المعروف للنفس، فيصنفها إلى نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة.

ومن جملة ما ينبغي للمتصوف أن يجتهد في تحصيله أن يكون قلبه صافيا من الشواغل والشواغب؛ وهو ما اعتبره -رحمه الله- خلقا أساسيا للتصوف، فعند حديثه عن الفراسة باعتبارها نورا إيمانيا ينبسط على القلب، بين أن الفراسة “لا يهتدى لحقيقتها إلا من صفا قلبه من الشواغل والشواغب”[13].فعلى المرء أن لا يشغل باله بالدنيا على حساب الآخرة، وهذا عين الزهد في الدنيا. وهو كما يعرفه الشيخ زروق “برودة الشيء على القلب حتى لا يعتبر في وجوده ولا في عدمه”[14].وبهذا يصحح المفهوم على أنه ليس ترك الدنيا، وإنما هو إخراجها من القلب، والانتفاع بها دون إقتار ولا اسراف؛ وهذا مظهر من مظاهر الوسطية والاعتدال في فكره رحمه الله.

وقد أكد الصادق بن عبد الرحمان الغرياني أن الشيخ “تميز بسلوك منهج القصد والإنصاف والوسطية بين الإفراط والتفريط”[15].

وأصل منهج الوسطية هذا من القرآن والسنة؛ فالله تعالى يأمر الإنسان أن لا يجعل يده مغلولا، وأن لا يبسطها كل البسط، وإنما يكون وسطا بين ذلك، وهذه هي الوسطية الحقيقية. وحينما نرجع إلى الأحاديث النبوية نجد النبي صلى الله عليه وسلم مثلا يأمرنا بالقصد في الغنى والفقر، فهذا أيضا جانب من الوسطية في الوحي، وهكذا في كثير من النصوص.

ولما كان الإنسان معرضا للخطأ كان لابد له من محاسبة نفسه، حتى يعرف قدرها، ويتمكن من تصحيح أخطائه بالتوبة والإنابة. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ))[16]. وفائدة ذلك كما يقول زروق رحمه الله: “معرفة المرء بنفسه وتواضعه لربه، ورؤية قصوره وتقصيره”[17]وفي مقابل ذلك يدعو إلى عدم الانشغال بعيوب الآخرين وإشاعتها بين الناس، إذ “ليس لمسلم أن يفضح مسلما إلا في موجب حكم بقدره، من غير تتبع لما لا تعلق له بالحكم، ولا ذكر عيب أجنبي عنه[18]. ومما استدل به على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك”[19]. كما استدل بحديث “من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة[20].

وأمام هذا الاهتمام الكبير بالنفس باعتبارها العقبة التي تقف أمام تحقيق الأخلاق يمكن القول بأن الشيخ زروق عالم نفس إسلامي بامتياز. ولا أدل على ذلك من حرصه الكبير على التحذير من النفس، والكشف عن عيوبها ووصف الدواء الناجع لها.

  1. أخلاق المتصوف في علاقته بالخلق:

إن توطين النفس على معاملة الناس بمحاسن الأخلاق هو من مسلمات الدين التي من أجلها بعث النبي صلى الله عليه وسلم. والشواهد النصية على ذلك أكبر من أن تحصى؛ إذ القرآن الكريم كله دعوة لحسن التعامل مع الناس، كما أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم جسدت هذا التعامل ومثلته حق التمثيل.

وإذا كان الرجل في نظر الإسلام لا يمكن أن يعرف إلا من كلام هو تصرفه وطبعه. فإنها في نظر الشيخ تتعرف كلها من مغاضبته، فإن لزم الصدق وآثر الحق وسامح الخلق فهو ذاك وإلا فليس هناك[21]. فعلى المرء أن يتحرى الصدق في أقواله وأفعاله. ونحن حينما نقرأ وصية النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا»[22] ندرك إلى مدى يحتاج المؤمن أن يكون صادقا. ومما ينبغي الإشارة إليه هاهنا أن حديث الشيخ عن الصدق ليس حديثا عنه في القول والفعل فحسب، بل حتى في البحث، ذلك أن: “المسبوق بقول إن نقله باللفظ تعين العزو لصاحبه، وإلا كان مدلسا”[23].

وبالإضافة إلى الصدق مع الناس ينبغي للمؤمن أن يتحلى بقيمة التعاون مع الخلق، ذلك أن “التعاون على الشيء ميسر لطلبه ومسهل لمشاقه على النفس وتعبه فلذلك ألفته النفوس حتى أمر به على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان”. وهو فينظر الشيخ عين التواضع، وبالتالي فإن علم التصوف لا ينبغي أن يؤخذ إلا ممن تواضع لأن “الكبر طابع لمنع من فهم الآيات والعمر”[24].

ومما ينبغي أن يتصف به كذلك مع الناس خلق الصبر، وهنا يركز الشيخ على الصبر على كل ما ليس له أثر في الخارج الحسي من المضار، كالقول والظن، لقوله تعالى: ((فاصبر على ما يقولون))[25]. فليصبر على أذى الناس، وليعفو وليصفح، فإن العفو -كما يقول زروق-هو “عين الواجب، ومقتضى عز المؤمن وقيامه بحق الشرع والطبع الكريم”[26]ومما استدل به من القرآن قوله تعالى: “فمن عفا وأصلح فأجره على الله”[27].ومن الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك”[28]. وأعلى درجة من ذلك في نظر الشيخ أن يدفع المرء بالتي هي أحسن لقوله تعالى: “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”[29]، فهذا خلق رفيع الدرجة، لا يمكن للعبد أن يحققه ما لم يتخلص من حظوظ النفس، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة.

من خلال هذه القراءة السريعة لأخلاق التربية الصوفية في كتاب“قواعد التصوف” يمكن تسجيل ما يلي:

– التصوف الإسلامي عند الشيخ زروق هو تصوف الأخلاق، إذ الغاية منه هي إصلاح القلوب وتزكيتها، وتربية النفوس على مكارم الأخلاق. وهو كذلك مقام التصوف هو مقام الإحسان المذكور في حديث جبريل.

– لا يكون المرء متصوفا حقا حتى تتحقق فيه مجموعة من الأخلاق فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين نفسه، وأيضا في تعامله مع الناس.

– التربية الصوفية الإسلامية هي التربية التي ينطلق من الوحي، ولا تتعارض مع ما يستنبط منه من أحكام فقهية، ومقاصد شرعية.

– كل الأخلاق التي يشترطها الشيخ في المتصوف سواء في علاقته بالله أو بالنفس بالغير نجدها حاضرة في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، فهي بذلك ليست من اجتهاد أحد، إنما هي أخلاق الوحي.

الكاتب حميد حقي

 المصادر و المراجع

1- قواعد التصوف، الشيخ أحمد زروق، ضبط وتعليق محمود بيروتي، نشر دار البيروتي – دمشق، الطبعة الأولى: 2004، (ص. 15)

2- مدرسة الشيخ زروق في الإصلاح الصوفي: التصورات والمبادئ، مقال للدكتور هشام الحليمي، منشور بمجلة قوت القلوب التي تصدر عن مركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء، العدد المزدوج 5-6، 2015، (ص. 296)

3- القاعدة: [29]، (ص. 101)

4- مدارج السالكين، ابن القيم، دار الحديث – القاهرة، 2005، ج2، (ص. 258)

5- تاج العارفين، الجنيد البغدادي، دار الشروق الطبعة الثالثة: 2007، (ص. 1)

6الرسالة القشيرية، محمد الكتاني، دار الجيل – بيروت، الطبعة: 2 1990، (ص. 242)

7- التخليق بين قراءة النص المسطور والأخذ عن أصحاب الصدور، مقال للدكتور اسماعيل راضي، منشور بمجلة قوت القلوب، العدد المزدوج: 3-4، (ص. 9)

8- القاعدة: [178]، (ص. 240 )

9- القاعدة: [188]، (ص. 251)

10- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم، 5/174. شعب الإيمان للبيهقي [10254]، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر القرطبي [903]

11- خاتمة “قواعد التصوف”، (ص. 286)

12- القاعدة [13]، (ص. 26)

13- القاعدة: [14]، (ص. 27)

14- أخرجه البخاري في صحيحه، باب (حلاوة الإيمان) رقم [16]، وفي باب (من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان) رقم [21]، وفي باب (من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر) رقم [6941]، وبلفظ آخر في باب (الحب في الله) رقم [6041]. كما أخرجه مسلم في صحيحه، باب (بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان) رقم [67].

15- القاعدة: [212]، (ص. 279).

16- القاعدة [63]، (ص. 90).

17- أخرجه البخاري موقوفا على عبد الله بن عمر رضي الله عنه، كتاب الإيمان، باب (قول النبي صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس…)، وأخرجه الترمذي (3451) عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس”.

18- عدة المريد الصادق، أحمد زروق، تحقيق الصادق بن عبد الرحمان الغرياني، نشر دار ابن حزم – بيروت، الطبعة الأولى: 2006، (ص. 5).

19- القاعدة [64]، (ص. 91).

20- القاعدة [05]، (ص. 17).

21- عدة المريد الصادق، أحمد زروق، مرجع سابق، (ص. 219).

22- القاعدة: [156]، (ص. 212 ).


الكاتب حميد حقي

المصدر الأصلي للمقال